الجمعة، 8 أغسطس 2008

قفزة الثقة..و نطـّة البطـّة الشقيّة

عندما كنت طفلاً لم أتخيّل نفسى - ولو لمرة واحدة- ضابطاً فى الشرطة أو الجيش حين كنت أطلق العنان لخيالى ليسبح فى لجج تأملات الأطفال الشاخصة فى عفويّة إلى المستقبل المنظور, و لا أتذكّر أننى رددت - ولو لمرّة واحدة- على تساؤلات أصدقاء والدى و صديقات والدتى - الإعتياديّة الروتينيّة المكررة- من عيّنة "وإنت بقى يا كتكوت نفسك تبقى إيه" بقولى أننى أرغب فى دخول كلية الشرطة أو الكلية الحربيّة , كما أذكر جيّداً أننى كنت طفلاً لا يتحمّس للتصوير ببذلة الضابط أو لعب العسكر و الحراميّة و الألعاب الحربيّة بمختلف صنوفها.
لماذا؟!
ليس فقط لأننى كنت بطبيعتى طفلاً مسالماً و مائلاً للهدوء و مفضلاً للمطالعة و الأنشطة التى يغلب عليها طابع الدعة و السكينة (كالموسيقى و الرسم و التلوين) , بل - و هذا هو الأهم و لا أدرى إن كان هو ما ولّد داخلى تلك الطبيعة المسالمة - لأننى كنت طفلاً نحيلاً من نوعيّة الأطفال الذين ما أن ينظر إليهم أقرانهم أقوياء البنية حتى يطمعون فيهم و يرون فيهم فرصتهم السانحة للبلطجة و الإستقواء عليهم.
لقد كانت الصورة الذهنية التى يرسمها الطفل بتلقائيّة عن ضابط الشرطة أو الجيش من حيث السمات البدنيّة و الجسديّة التى تمتاز بالقوة هى التى قد كبحت على الأرجح جماح خيالى فى طفولتى فجعلته لا يحلّق فى سماء إستشراف المستقبل و هو يومض ببذلة ضابط شرطة أو يبرق ببذلة ضابط الجيش.
صحيح أننى عندما أصبحت فى طور المراهقة و عندما أصبحت فى المرحلة الثانوية كنت قد أصبحت أتمتع ببنية عضليّة قويّة و قوام رياضى فارع , و صحيح أننى أصبحت فى تلك الفترة أمارس رياضات عنيفة تكون الغلبة فيها للإلتحام البدنى -ككرة القدم- أو للتحمّل العضلى - كالسباحة - , إلا أن ما ترسـّخ فى وجدانى منذ طفولتى جعلنى أستمر فى العزوف عن التفكير فى دخول كلّية الشرطة أو الكلية الحربية , فاكتفيت بتتبع أخبار زملاء الدراسة الذين كنت أجتمع بهم ليحكوا لى عن كيف جرت إختبارات قبولهم بكلية الشرطة و الكلية الحربية و كيف قاموا بأداء قفزة الثقة و كيف جرت الإختبارات الطبية و البدنيّة فى ظل منافسة شرسة مع جحافل من الشباب "البغال" المتفجّرين بالحيوية و العنفوان و الذين لا يملكون من رأسمال يمكنهم من القفز فوق مجاميعهم "الكحيانة" سوى......... الصحّة.
و اليوم...حدثت المفاجئة التى أدهشتنى.فأثناء تقليبى فى بعض الصحف إذا بى أمام خبر يقول أن أكثر من ستين بالمائة من طلبة الثانوية العامة الذين تقدّموا للإختبارات الخاصة بالإلتحاق بكلية الشرطة و الكلية الحربيّة قد رسبوا فى الإختبارات الطبية و البدنية نتيجة إصابتهم بـ"كوكتيل" متنوع من الأمراض ما بين تقوّس الظهر وهشاشة العظام و فقر الدم و الربو و هزال البنية!!!
إن ما وصل إليه مستوى الكفاءة الصحية و الجاهزية البدنية للأجيال الصاعدة فى مصر ليس سوى نتاج للترعرع فى دولة نخر الفساد فى عظامها فتسوّست أبدان أهلها بكل ما هو مسمم و مسرطن و مكربن فى المأكل و المشرب - بل و فى الأنفاس الداخلة إلى و الخارجة من تلك الأبدان - حتى أصبح أكثر من نصف شبابها "مسوّسين" وغير لائقين بدنياً أو صحياً للإلتحاق بكليات الشرطة و الكليات الحربية.
.إن النخبة الحاكمة ستظل هى المسئولة أمام الله و التاريخ عمّا آلت إليه صحّة شعب المحروسة و عمّا آلت إليه أبدان المصريين التى تم تسويتها على نار الفساد الهادئة التى استباحت كل شيئ و أى شيئ فى سبيل الإثراء عن طريق الإتجار بأبناء هذا الشعب, و حتى أكون واقعياً فإننى لا أعلّق الكثير من الآمال على قيام هذه النخبة بالتعاطى بشرف و أمانة و وطنية مع ما ولّد حالة صحية و بدنية متردّية لشباب مصر , و لعل كل ما أأمل فيه هو أن يتم التعامل بمرونة مع هذه المعطيات بحيث يتم التسهيل على راغبى الإلتحاق بكليات الشرطة و الكليات الحربية لتتوافق إختبارات القبول مع حالتهم الصحية و قدراتهم البدنية بحيث يتم إستبدال قفزة الثقة بـ"نطّة البطّة الشقيّة".

ليست هناك تعليقات: