الجمعة، 8 أغسطس 2008

غريزة الديربى

كلمة جار فى المعجم اللغوى مشتقّه من الجوار أى التواجد المشترك بين طرفين أو عدّة أطراف فى حيّز مكانى معيّن, وقد يضيق هذا الحيّز أو يتّسع ولكن معنى الجوار يظل ثابتا, وباتّباع منظومة الوحدات القياسيّه ستجد ان المرّيخ هو جار الأرض فى المجرّه التى تجمعهما,وأن أفريقيا وآسيا وأوروبا هم جيران فى العالم القديم من محيط كوكبنا بينما الأمريكتين هما الجارتين فى عالم كوكبنا الجديد , وأن مصر والسودان جارتين فى افريقيا, وأن القاهره والجيزه جارتين فى مصر,وأن مصر الجديده ومدينة نصر جارتين فى محيط القاهره,وأن قاطن مكرم عبيد هو جار لقاطن عبّاس العقّاد,وأن عمارة سيادتك تربطها بالعماره التى أمامك رابطة جوار تماما كالتى تربطك أنت بقاطن الشقّه التى أمامك,وهكذا تتناهى الوحده القياسيّه فى الصغر لتكتشف أن بداخلك أيضا جيران اذ أن الغدّه الدرقيّه محاطه على سبيل المثال بأربع غدد صغيره تسمّى الغدد الجار- درقيّه.
ورغم أن البشريّه جنحت عبر تطوّرها إلى تنظيم وتقنين العلاقات الحاكمه لمنظومة الجيره سواء كان ذلك عبر التعاليم الدينيّه السماويّه التى تحث على حسن معاملة الجيران والتوصيه عليهم حتى الوصول الى الجار السابع كما فى الاسلام على سبيل المثال,أو عبر القوانين الوضعيّه التى كفلت للجار مثلا الأولويه فى شراء العين المجاوره له بواسطة حق الشفعه, أقول رغم كل هذه القوانين التى تصب فى خانة تقارب الجيران الاّ أن الذى يحدث فى الغالب هو تنافر هؤلاء الجيران وتناحرهم وكراهيتهم الدفينه لبعضهم البعض وغيرتهم المقيته من بعضهم والتى تقبع فى أعماقهم دون مبرّر ملموس مما يلقى باللائمه تبعيّا على شمّاعة الغريزه...تلك الغريزة البشريّة العدوانيّة التى أضرمت نيران الحروب المستعرة و سفكت الدماء و أهرقتها على أرض هذا الكوكب منذ فجر التاريخ الإنسانى.
و المتعمّق فى التاريخ و المبحر فى أعماقه يسهل عليه إكتشاف كم كانت الجيرة هى مصدر الإحتكاك و الإقتتال رغم أنها كان من المفترض أن تكون دافعاً للتراحم و المودّة.
واذا كانت أغلب حروب وصراعات المجموعات البشريّه منذ فجر التاريخ تدور فى فلك تناحر الجيران مع بعضهم البعض سواء على النطاق القبلى فى مراحل طفولة الأمم أو على نطاق الدول والامبراطوريات بعد نضوج المجتمعات القبليّه المتشرذمه وتلاحمها لتكوين مجتمعات أكبر وأعم فى صورة دول وممالك , فلا عجب أن تكون أكثر الحروب ضراوة هى تلك التى نشبت بين الفراعنه والحيثيين والتى تميّزت بالصد والرد, واليهود والجبابره الفلسطينيين والتى تميّزت بالاستمراريه منذ أيّام نزول العهد القديم وحتى بزوغ فجر النظام العالمى الجديد, والرومان والاغريقيين والتى اخذت صبغة التنافس حول قيادة العالم الغربى للسيطره من ثم على حوض البحر المتوسط,والعرب والفارسيين فى سبيل الانفراد بمفتاح الشرق الأدنى والولوج منه الى الهند والصين,والأتراك والبلقانيين الذين تميّزت حروبهم بالتنكيل والخوزقه ونزع أحشاءالقاده المهزمين أمام أعين جماهير شعبهم ,والأسبان والبرتغاليين الذين أخذت حربهم صبغة تنافس الأساطيل فى مجال الكشوفات البحريّه,والانجليز والفرنسيين الذين خاضوا غمار حرب المائة عام ..بل و الإنجليز و الإنجليز أنفسهم عندما خاضوا حرب الوردتين الأهليّة فى صراع مرير على التاج و العرش..... إلخ إلخ.
إن كل هذا يفسّر حقيقة أن نقاط الجيره والتماس هى الموطن الأصلى للوحش العدوانى البشرى الذى لا يلد الاّ التوتر والاستنفار كما هو الحال بين الهند وباكستان و بين شطرى كوريا وبين اريتريا واثيوبيا وبين صربيا والبوسنه وبين ألبانيا ومقدونيا وبين تركيا واليونان وبين السلفادور وهندوراس وبين الصين وتايوان مع بعض المناوشات التى تعوّدنا عليها بين مصر وليبيا وبين الجزائر والمغرب وبين قطر والبحرين , ومن اثنين بلطجيّه فى خناقه طحن لاثنين على المعاش فى خناقة لعب الطاوله على القهوه ياقلبى لاتحزن وآهو كل برغوث وعلى قد دمّه.
و إذا نظرنا الى تلك العدوانيّه الغريزيّه تجاه الجار فسنجدها دائمة الاطلال برأسها من أصغر وحدة قياس الى أكبرها , فعلاقة جيران نفس الشارع تندرج تحت بند أخبار الحوادث شائعة الحدوث مثل :
-" يطلق الرصاص على جاره بسبب صوت الكاسيت العالى"
و
-"تجهض جارتها بركله فى البطن بسبب نشرها لغسيلها المبتل فوق غسيلها الذى أوشك على الجفاف"
و
-" يطعن زميله فى المدرسه حتى الموت بسبب التنافس أثناء لعب الكره"
واذا لم تصل الأمور لمرحلة الايذاء الجسدى وازهاق الروح فانّها على الأقل تظل مكبوته فى صورة تفحّص جارك لمحتويات كيس زبالتك الموضوع أمام شقّتك ليروّج بعدها أنّك عميل صهيونى ومن كلاب التطبيع المهرولين بحجّة أن كيس زبالتك لا يخلو يوما من علب بيتزا هت وأكياس ديليفيرى ماك دونالدز.....واذا استكملت تتبّع اتّساع وحدة القياس فستجد نفسك تسبح فى طيف واسع من العدوانيّه الغريزيّه بين كل ما هو مجاور للآخر بدءا من تهكّم أهل الوجه البحرى على نشوفيّة رأس أهل الوجه القبلى الذين يتهمونهم بدورهم بانعدام النخوه , وانتهاء بأكبر وحدة قياس بالسينما الأمريكيّه التى ماانفكّت تتخيّل وجود أعداء لأمريكا( باعتبارها ممثّلة العالم الآن) فى الفضاء الخارجى فى صورة مخلوقات كوكبيّه شريره تسعى لغزو وتدمير الأرض وكأن انعدام المنافسه بين أمريكا وغيرها استفز الغريزه العدائيّه الانسانيّه لتخيّل عدو وهمى قادم من المرّيخ ....وهوّه يعنى الحياه تبقى حياه من غير خناق وحروب؟؟؟؟؟؟؟
واذا كان البعض يرى فى مجال التنافس الرياضى البديل الحضارى والمشروع للحروب للتنفيس عن الروح العدوانيّه والغريزه التناحريّه للانسان بحيث ينتقل النزال من أرض المعركه لأرض الملعب فى صوره مقنّنه تتناسب مع تطوّر المجتمع الانسانى , واذا كانت مباريات كرة القدم مثلا التى تجرى بين نادييى نفس المدينه أو بين منتخبى بلدين متجاورين جغرافيّا يطلق عليها فى العرف الكروى مباريات الــ"ديربى", فاسمحوا لى أن أطلق اسم غريزة الديربى على هذه الروح الانسانيه المتحفّزه دائما للامساك بتلابيب الجيران.
وعلى ضوء هذا التفسير المتواضع الذى أعتقد فيه تماما وأجزم بصحّته فان الكثير مما قد يثير التساؤل فى عالم كرة القدم سوف يتوفّر له التفسير المنطقى الذى يزيل أى تعجّب, فلا عجب أن أى زملكاوى قد يقول لك بعد فوز فريقه على الأهلى "آهو أنا دلوقتى مايهمّنيش حتّى لو اتغلبنا من طوب الأرض" , بينما تجد الأهلاوى يقول لك:"أكسب الزمالك أحسن عندى من الفوز بالدورى" , بينما تجد كلاهما مرتاحا نفسيّا لحصول الاسماعيلى على الدورى فالمهم عند كلا منهما أن الآخر لم يفز به, ولا عجب أن مباريات المحلّه وبلديّة المحلّه تشهد دائما ضرب بالنبابيت فى المدرّجات , وأن مباريات المصرى البورسعيدى والاسماعيلى تشهد تراشقا بكراسى الفراشه فى التراك بينما تشهد مباريات الاسماعيلى ضد القناه أو السويس تشنّج وارتماء على الأرض مصحوب بالترفيص والشحتفه, وليس غريبا أن يحدث شغب واضرام نار وتكسير زجاج واطلاق رصاص بين مشجّعى الـــ أى.سى والانتر فى شوارع ميلان , وهو نفس مايحدث فى شوارع روما بين أنصار لازيو وروما, وفى شوارع ليفربول بين أنصار ايفرتون وليفربول,وفى شوارع مانشيستر بين أنصار مانشيستر يونايتد وأنصار مانشيستر سيتى, ناهيك عن أحداث الشغب المعتاده فى لقاء برشلونه والريال مدريد , وانفجار الوضع الأمنى فى لشبونه عند لقاء بنفيكا وسبورتنج , بل وفى الضرب بالعقال فى شوارع الرياض بين أنصار النصر والهلال,والتراشق بالحجاره فى بيروت بين مشجّعى النجمه والانصار أو بعد لقاء الهمونتمن والهومنمن , والتلاسن ورمى الشباشب بين مشجّعى الهلال والمرّيخ فى شوارع الخرطوم, وكلّما سألت أحد الخبراء الرياضيين عن سبب هذا التشنّج والعداء المستحكم بين هذه الأنديه وبعضها البعض بالذات جاء ردّه : "أصل دى مباراة ديربى" وهى جمله ترجمتها حسب معلوماتى اللغويّه :
أصلهم جيران!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
ولعل غريزة الديربى هى التى حوّلت مباريات كرة القدم بين بعض الدول الى ساحات قتال واشتباك وتلاسن وحرب اعلاميّه وضخ لمشاعر كره أسود بغيض مثلما يحدث كلّما لعبت السعوديّه مع الكويت , وقطر مع البحرين , وساحل العاج مع غانا , والجزائر مع المغرب, ومصر مع ليبيا, وتركيا مع اليونان , وهى الغريزه التى تجعل الحرص على الفوز والنفور من الهزيمه أعلى من المعتاد كلّما لعبت ايطاليا مع فرنسا , وأسبانيا مع البرتغال, وألمانيا مع انجلترا, وهولندا مع بلجيكا , بل ووصل الأمر الى حد نشر القوّات الخاصّه المعزّزه بوحدات الجيش فى منطقة الاستاد كلّما لعبت أوروجواى مع الأرجنتين , ناهيك عن وصول الأمر الى حد اندلاع الحرب الفعليّه بسبب مباراة كرة قدم بين السلفادور وهندوراس , ولعل مباراة أمريكا والمكسيك بكأس العالم كانت خير شاهد على أبديّة غريزة الديربى التى جعلت رائحة العداء والتحفّز المتبادل تفوح من جنبات أرض الملعب , والحمدلله أن الهند والباكستان ليسا من الدول المهتمّه بكرة القدم وان كانت المصيبه تبدو أعظم لتقابلهما المستمر فى اللعبتين الشعبتين عندهما وهما الكريكيت والهوكى وكلاهما يفوق كرة القدم فى خطورة النتائج والعواقب بوجود مضارب بين يدى كل لاعب.
واذا كانت غريزة الديربى تحكم حالة العدوانيّه البشريّه فلا عجب أن يأتى اليوم الذى ترى فيه التنافس بين كل من تجاورا قد وصل لأشدّه وهو مايذكّرنى بقصّة سائق البيجو الذى يعمل عبر المحافظات وقد توجّه لسائق البيجو جاره والذى يعمل على نفس الخط عندما رأى أن هذا الأخير لا يوجد بسيّارته سوى راكب واحد فاقترح عليه أن يجعل هذا الراكب يتوجّه لسيارته التى امتلئت الاّ من مكان واحد فقط و....و.....و.....و....."ابقى حمّل انت بعد كده براحتك يا عسل" , فماكان من رد هذا الأخير مدفوعا بالغريزه العدوانيّه الـــ"ديربيّه" الاّ أن قال له:

"ده انا أحط الزبون تحت العجل وأهرسه هرس ولا أدّيهوش ليك"
!!!!!

ليست هناك تعليقات: