الجمعة، 8 أغسطس 2008

تليفزيون الببيونات...و شعوب ترتدى الكستور


تبدو الأمور طبيعية داخل الأوتوبيس عندما تسمع أحد موظفى أرشيف وزارة الأوقاف و هو يتحاكى عن روعة وجمال سندوتشات الكبدة والسجق (أم خمسة وسبعين قرش) التى تناولها – من الوضع واقفاً - بالأمس من يدى عم فرغلى الذى يتمترس بعربة الكبدة على ناصيه حارتهم.


و يستمر إحساسك بواقعية المشهد عندما تلقى نظرة على تعبيرات الإنبهار المرتسمة على وجه مدرس الألعاب بمدرسة درب البرابرة الإبتدائيه الذى كان موظف الأرشيف يتحدث معه و هما محشورين مثلك فى ردهات أوتوبيس 124بشرطة المتجه رأساً إلى النيل والمنتمى لفصيله نصر المعمرة من أيام الإتحاد الإشتراكى والمفرج عنه من غياهب الورش الأميرية لحسن سير وسلوك الكمسارى.


وتتأكد أن كل شيئ يسير فى سياقه الطبيعى عندما تسمع جانباً آخراً من الحوار و هو يدور حول محل الملابس "التحفة" الذى إكتشفه مدرس الألعاب بميدان العتبة , والذى يبيع البنطلونات الـ"جَبردين" التى لا يُشق لها غبار و بسعر أرخص "جوز جنيهات" من البائع الجائل "الصعيدى" الذى يفترش الرصيف فى "الموسكى".


ثم.....

يطمئن قلبك إلى أنك لازلت متصلاً بالواقع عندما تسمع أثناء نزولك تلك المرأه المتشحة بالسواد فى الكرسى الأمامى وهى تحتضن شنطة الخضار البلاستيكية أثناء شكواها و تبرّمها من "اللخلخة" المزمنة التى تعانى منها "رِجْل" الكنبة الاسطمبوللى التى تتصدّر "أوضة المسافرين" , بينما زوجها الجالس بجوارها يقسم لها بكل المعظمات و يجزل لها الوعود بأنه سيقدّم لها الحل الحاسم للمشكلة شريطة أن تفعل هى الأخرى مابوسعها لإنقاذ "البلوفر" الذى يرتديه - والمغزول من صوف خرفان العيد التى هاجمتها الحمى القلاعية و "لحقوها" بالسكين قبل أن تنفق , لتستقر فى أجواف البشر فى العيد بدلاً من أن يتم رمى جثثها بمصارف ترعة المحمودية - , فقد فاقت ثقوب ذلك "البلوفر" تلك الثقوب التى تهترئ بها قوانيننا و هى تـُغزَل وتـُصَاغ وتـُفَصّل تحت قبة مجلس شعبنا الموقر ( و بالطبع , فإنك ستجد الإجابة على تساؤلك عن كيفية تمكن كلا الزوجين من العثور على مكان للجلوس عندما تدرك أنهما كانا قد ركبا الأوتوبيس فى الإتجاه المعاكس لآخر الخط أولاً قبل العودة فيه إلى الاتجاه المنشود - للركوب من أول الخط قبل معركة الطلوع والنزول التى تعتبر بانوراما يوميّة مصغّرة لملحمة العبور - ).


ولكن.........

إذا إفترضنا أن ما حدث فى ذلك الأوتوبيس هو أنك كنت قد سمعت موظف الأوقاف و هو يتحاكى عن "لذّة" الفراخ "بالشامبنيون" و "طعامة" الــ"كلوب ساندويتش" , أو أن مسامعك قد إصطدمت بعبارات مديحه و هو يتغزل فى الــ"فلوريدا صن شاين كوكتيل" وروعة الــ"بنانا بوت" الذين طلبهم "هوم ديليفرى" من "بون آبيتيت رستوران" , فإنك حينئذ لابد و أن تبدأ فى الشك بأنك لست فى كامل وعيك , أو أنك تحلم حلم ليلة شتاء عاصفة والهواء البارد يتسلل من شباك غرفة نومك المكسور ليلفح ظهرك العريان وقد أفلت إلى الأسفل بنطلون بيجامتك الكستور الصينى - من "شيكوريل" طبعا- بعد أن رفع "الأستك" المنهك الراية البيضاء. و إذا إفترضنا أن مدرّس الألعاب كان قد رد على صديقه "الأرشيفجى" بإسترساله فى وصف البذله الـ"بيير كاردان" والكرافتة الـ"كريستيان ديور" واصفاً إيّاهما بالـ"لقطة" بعد أن وقع نظره عليهما بالصدفة وهو يقوم بالـ"شوبينج" فى أحد الـ"مولات" الفاخرة , فإنك لا بد و أن تشعر بالرغبة فى فرك عينيك والرجاء من الأخ الواقف بجانبك فى الأوتوبيس أن يتكرّم بمناولتك "جوزين" أقلام على صدغيك حتى يتأكّد لك بما لا يدع مجال للشك أنك لا تغط فى نوم عميق يتخلله الهذيان و الـ"خطرفة".


أما إذا إفترضنا أن ما شاهدته هو أن تلك المرأه فى مقدمة الأوتوبيس كانت تشكو لزوجها من أنها ملّت من "الأوبيسون" المزيّن لصدر "الكوريدور" وتريد تغييره –بالمرّة- مع ستائر الـ"ليفينج روم" , فإنك لا بد و أن تفكّر جدّياً فى عرض نفسك على طبيب أمراض عصبية ونفسية لتنسيق مواعيد جلسات الكهرباء اللازمة لعلاجك من الهلاوس البصرية والسمعية .


فـــــ .... إذا حدث ذلك .... لاتقلق .....

فالخلل حينئذ لن يكون بالتأكيد بك , بل سيكون فى هذه الحالة فى راكبى الأوتوبيس الذين سيبدون كالمتجهين فى رحلة إلى "السرايا الصفراء" للعلاج الجماعى من إنفصام الشخصية .



و فى واقع الأمر فإن إنفصام الشخصية يمكن أن يكون أحد تعريفاته هو أنه المرض النفسى و العصبى الذى يصر التليفزيون المصرى على أن يصيب الشعب المطحون به (رغم أن المفترض هو أن رسالة "ماسبيرو" الأساسية هى مواجهة الواقع ومجابهة مشاكله المريرة و طرح الحلول الواقعية لها).


و من هذا المنطلق , فإننى لا أهضم على أى حال إلتفاف أسره مصرية كادحة أمام التليفزيون فى منزلها بالسبتية أو العمرانية لمشاهدة برامج تليفزيونية إستفزازيه تعرض أدق توافه هوامش حياة طبقات إجتماعية مخملية على عموم الأسر المصرية (بل و تقدّمها على أنها تفاصيل نمط الحياة اليومية الإعتيادية التى يفترض أنها تمثل واقع المشاهد المُعَاش (و هو ما يصيب المشاهد الذى تسحقه طاحونة الحياة بالإكتئاب والإحباط , و هو أيضاً ما يزرع داخله بالتأكيد فدادين الحقد والغيرة و النقمة وتجعله يلعن الزمان ويصب جام غضبه على الأيام).


و لذا , فإنه من الصعب على ذهنى إستيعاب أو تصوّر شعور تلك البنت التى عادت لتوها مع عريسها (المكتوب كتابهم من أيام ضربة سبتمبر) من رحلة بحث مضنية عن غرفة نوم خشب "حُبَيْبِى" – مضروب....و ...بالقسط - , لتكتشف أنها.... "مش حتتجوز فى سنتها السوداء" , فإذا بها تشاهد برنامج تليفزيونى سخيف وهو يعرض عليها تلك الـ"توتى فروتى" وهى تحكى للمشاهدين كيف اختارت فستان فرحها من بين أكثر من ثلاثين موديل , وكيف تعرفت على خطيبها – صدفة - فى شرم الشيخ, و ..... و.... و.....
"ياااااااى....كووووول......إنت كمان بتحب الـ"ويند سيرف" والـ"جيت - سكى" وبتموت فى الـ"بينك فلويد"؟؟!!!!...... إحنا أكيد إتخلقنا لبعض .


كما أنه من المؤلم بالنسبة لى أن أتخيّل شعور تلك الأم المكلومة التى تشققت كعوبها - من الوقفة فى طابور العيش - وانحنى ظهرها وهى منكبة على الـ"طشت" الذى ترقد "عصاية الغليّة" بجواره قبل أن ترفع "حلّة" العدس من فوق وابور الجاز , وهى تشاهد على الشاشة "أم العروسة" ذات الرقبة المرصعة بالمجوهرات فى الفستان السواريه وهى تستجدى دموعها وتعصر فى عينيها لإفتعال دموع التأثر المصطنعة على فراق إبنتها (رغم أن شقه زوجيتها تقع فى الطابق الذى يعلو "البيت الكبير" بنفس العمارة) , بينما يد المصوّر تمتد لها من خلف الكاميرا بمنديل كلينيكس - قال يعنى- قبل أن تنهى هذا المشهد التمثيلى الردئ بتفوير دمك وهى تتباهى بأن إبنتها "الكتكوتة " لاتدخل المطبخ ,وأنها بالكاد تعرف كيف تقلى بيضتين (و بالطبع فلا مانع من أن يتم تصوير الـ"سندريلاّ " وهى تقلى بيضة أو بيضتين فى المطبخ – من باب الإخراج الـ"ستايل" و تحت بند اللقطات الطبيعية و....و.....ياااااااااي.....كوووووول......لقطات روشنة طحن- ) , ولايخلو الأمر من نصائح "قمورتنا الحلوة" للبنات المتابعات أمام الشاشة عن بعض أمور "الإتيكيت" الخطيرة , فهى مفتاح ست البيت الشاطرة التى يجب أن تعرف كيف تسيطر جيداً على السفرجية حتى لاينفلت عيارهم ويتمردوا فيضعوا أطباق "الأورديرف" على شمال الضيف بدلا من يمينه(ياللعار).


أما الأطفال الملتفين أمام الشاشة و هم متربّعين فوق "كليم" كالح باهت , فإنهم إذ يتشبثون بأعواد القصب "المسوّس" فى وصلة المصمصه والمزاج أثناء "الفرجة" على التليفزيون بعد يوم من اللعب الممتع بالعجلات الكاوتشوكية وهم حفاة فى الشارع , فإن عليهم أن يستسلموا لقدرهم المحتوم الذى يفرض عليهم أن يتم بذر عقد النقص الطبقية في داخلهم منذ نعومه أظافرهم , لتترسخ جذور معاداة المجتمع فى أعماقهم وهم يشاهدون أقرانهم فى لقطات من ذلك الفرح و هم يرقصون على المسرح مرتدين البذل السوداء و الـ"ببيونات" قبل أن يأتى أحدهم أمام الكاميرا ليقول :
"أنا بأحب أختى باكينام (العروسه) و أونكل تامر (العريس) قوي قوي و أكثر من المارشميللو والدوناتس .


وعن رب الاسرة المطحون......حدث ولاحرج و لذلك...فإنه يختصر الطريق ويمتنع عن مشاهدة قرينه الذى أقام عُرْساً تفوق تكلفته مرتبه فى قرنين من الزمان بينما يضرب هو أخماساً فى أسداساً لتدبير تكاليف فرح إبنه فوق سطوح بيتهم , فيتعلل الرجل الذى يكاد يموت كمداً بالإرهاق و ينسل تحت اللحاف و هو يتمتم لزوجته قائلا :
" يا وليّة ما أنا راجع قدّامك متأخر والمواصلات كانت "فحت" النهارده....والله يا "تفيدة" لولا العشرين جنيه الإضاف بتوعى الجرد ماكنت إستنيت ثانية واحدة بعد الشغل".


أما ذلك الشاب "العاطل" الباحث عن وظيفة...

ذلك الشاب الذى يعانى من ضبابيّة المستقبل...

ذلك الشاب الذى تتقاذفه أمواج الحياة و لا يرى ضوءاً فى نهاية النفق....

فـــ......لا عزاء له وهو يشاهد "تامر" يتغزل فى "باكينام" التى إكتشف أنها – مثله - لا يمكنها تحمل الحياة بدون أن ترقص الــ"سالسا" كل ليلة بعد لعب الكروكيه والبريدج فى النادى , و لاعزاء له و هو يشاهد "تامر" يحكى أمام الميكروفون عن الشقه الـ"تو ليفيل" والأرضيات الـ"بورسلين" والتعب والشقاء و الويل (ياعينى) الذى واجهه مع مهندس الديكور لإعداد الشقه التى لم يدفع فيها مليماً واحداً بالطبع ( بل تكفل بها "بابى" لأن "المحروس" متخرج من الجامعة الامريكية قبل أسبوعين فقط من زفافه).


و هنا...... نواجه السؤال :

من ياترى المريض المصاب بانفصام الشخصية و داء الشيزوفرينيا؟؟ !!


هل هى.....

الأسرة المصرية ؟؟ !!

أم برامجنا التليفزيونية الاستفزازية ؟؟!!



إذا عرفت الحل...... إتصل على الرقم التالى من أى محمول.....و اربح................صابونة

ليست هناك تعليقات: