الجمعة، 18 أبريل 2008

جورجيا بشرطة

عند متابعتى لـ"حصاد اليوم" على قناة الجزيرة لفت إنتباهى بشدّة خبر عابر على هامش التوترات المزمنة بين روسيا و جورجيا خلال الأعوام الخمس الماضية (و هى تلك التوترات التى أصبحت بمثاب الخرّاج المزمن الذى يلتهب إلتهابات حادّة متكررة بين الفينة و الأخرى قبل أن يتم التعامل معها بجرعات عالية من المضادات الحيوية التى و إن أفلحت فى إخماد الإلتهابات الحادة إلاّ أنها تفشل فى نهاية المطاف فى أن توفر شفاءً تاماً و كاملاً للخرّاج المزمن الذى يظل "ينقح" طالما ظل "كهف" الخرّاج الكامن فى أعماق الأنسجة متواجداً و جاهزاً للإمتلاء بالصديد كلّما إنخفضت المناعة أو دخل الدورة الدمويّة جرثومة تؤدّى إلى تهيّج و إحتقان الأنسجة المجاورة للخرّاج....و بذلك لا يمكن الشفاء من هكذا "خراريج" إلاّ بالتدخل الجراحى و بأسلوب "وجع ساعة ولا وجع كل ساعة").
و عودة إلى الخبر الذى كان مفاده أن الخارجية الروسية أصدرت بياناً تحذر فيه "جورجيا" من إستمرارها فى تحرّكاتها "المدعومة" من أجل عرقلة جهود روسيا للإنضمام لمنظمة التجارة العالمية (و بالطبع فإن وصف "المدعومة" هذا لم يكن فى واقع الحال سوى إستمرار للتلميحات الروسية – التى تكاد أن تصل إلى حد التصريح- بخصوص قيام جورجيا بأداء دور مخلب القط أو مسمار جحا لصالح ماما أمريكا من أجل "قريفة" روسيا و "التغتيت" عليها لتلعب جورجيا بذلك دوراً مشابهاً للدور الذى تلعبه تايوان مع الصين لصالح أمريكا.بالطبع لا يمكننى التشكك و لو للحظة واحدة أن أحداث 11 سبتمبر كانت فرصة ذهبية لا تعوّض للولايات المتحدة لتعيد صياغة إستراتيجيتها العالميّه بشكل يضمن لها إستمرار حالة أحاديّة القطبيّة التى فرضتها على العالم منذ عقدين من الزمان ، ولعل منطقة آسيا الوسطى ظلّت الكابوس الذى يقضّ مضجع الإدارات الأمريكيّه المتعاقبة (إذ أنها هى تلك المنطقه التى تعد المدخل الطبيعى لدول شرق أوروبا , وهى أيضاً المنطقه التى تجمع أو تشرف جغرافيّا على كل القوى النوويّة المعلومة و المرصودة سلفاً مثل روسيا والصين والهند وباكستان , بل و أيضاً تلك التى يعتقد بأنها نجم صاعد فى مجال إقتناء امكانيّات نووية مثل ايران).
ولعل مكمن الخطورة على ماما أمريكا ليس فقط وجود دول تقتنى أسلحة نوويّه, بل أن مكمن الخطورة الحقيقى هو أن هذه الدول مناوئة لأمريكا (إمّا على صعيد الأيديولوجيّه أو على صعيد تضارب المصالح أ- و فى كلاهما كما هى حالة الصين التى يزيد عليها أيضاً إعتبارات تنافسيّة على مسار الإقتصاد والزعامة التجارية و الصناعية الدوليّة باعتبار الصين هى المرشّح الأول لكسر حالة القطبيّة الأحاديّة الأمريكية-).
ولهذا...فإنه من السهل أن نعى أن التمركز فى وسط آسيا كان هو المحور والغرض الرئيسى من الحملة العسكرية الأمريكية على أفغانستان ، فأفغانستان لها أهمية إستراتيجية كبيرة ، حيث تعد هى المفتاح السحرى بالنسبة لمنطقة وسط آسيا كما أنها هى "البطن الطرى" لروسيا, يعنى بالبلدى كما قال فؤاد المهندس:"العتبة الجزاز" لوسط آسيا التى تضم دولاً مهمة متصلة جغرافياً ومشرفة على مواقع إستراتيجية أمنياً واقتصادياً. ولعل اشكاليّة أمريكا الحقيقيّه قد بدأت تتضح عندما إكتشفت أن تلك الدول لم تبدأ فقط فى تعزيز إستقلاليتها عن دائرة "الهيمنة" الأمريكية ، بل أيضاً بدأت فى إقامة علاقات تفاعل وتكامل -بل وشراكة- ليس فقط فيما بينها بل و مع دول قريبة منها جغرافياً ، وهى العلاقات التى من شأنها أن تعزز استقلالية دول شرق أوربا عن الولايات المتحدة ( خاصّة فى ظل الإلحاح والتصميم البادى منذ منتصف تسعينات القرن الماضى من جانب الصين وروسيا حول ضرورة بناء عالم متعدد الأقطاب - وهو الشيئ الذى تمّت ترجمته بصورة فعليّة و واقعيّة من خلال إفشال و إحباط مخطط الإدارة الأمريكية وحلفائها لتمرير مشروع العقوبات الذكية على العراق فى السابق، وكان ذلك بالطبع نتيجة رفض بعض الدول المعنية تنفيذه على الأرض ،و بسبب تهديد روسيا باستخدام حق الفيتو-).
هذه النشاطات المناوئه لأمريكا كانت دائماً تصدر من قبل دول تعتبرها أمريكا ليس فقط ساعية لإسقاط هيمنتها الأحادية على العالم, بل و قادرة على ذلك بالفعل خلال المستقبل القريب .... و هو ما كان بمثابة جرس إنذار بالنسبة للإدارة الأمريكية فيما يتعلق برؤيتها للنظام العالمى الجديد الذى تريده ، ومن ثم فقد وفرت أحداث 11 سبتمبر مبرراً للولايات المتحدة للقيام بحملتها العسكرية على أفغانستان ، إذ من خلال تلك الحرب من جهة ، وحملة مكافحة الإرهاب من جهة أخرى , فقد توافر المبرّر والغطاء الشرعى الدولى للعمل العسكرى الأمريكى على أفغانستان والذى يراد من خلال تطويره لاحقاً التغلغل والزحف على وسط آسيا ( وهو الشيئ ذو الأ بعاد الاستراتيجية بالغة الأهميّة..... كالسيطرة على نفط بحر قزوين ، ومراقبة علاقات التعاون العسكرى النووى بين القوى الآسيوية بعين فاحصة وعن كثب ومن قلب مسرح الحدث, ثم محاولة تطويق القوى ذات الأهمية الإستراتيجية و الإقتصادية على الصعيدين الإقليمى والدولى والتى يمكن أن تشكل منافساً ومزاحما مستقبليّا للولايات المتحدة - أو على أضعف التقدير معوقاً لسعيها نحو فرض نظام دولى أحادى القطبية كانت قد وضعت ركائزه بالفعل ودخلت فى طور فرض استمراريّته-).
و إذا كانت إدارة البيت الأبيض ترى أن الخطر الذى كانت – و يبدو أنه لا زالت - تمثله طالبان يمكن تصنيفه ضمن المخاطر الكبرى على المصالح الأمريكية( تماماً مثلما تمثّل إيران و من قبلها العراق قبل غزوها تهديداً للمصالح الأمريكية فى الخليج) , فإن واشنطن تسعى فى الواقع إلى زرع نوع من الصراع الإقليمى والدولى فى أفغانستان والمنطقة المجاوره(أى منطقة وسط آسيا ) وذلك إنطلاقا من تكتيك مفاده أن من يريد السيطرة على العالم فإنه لن يستطيع فعل ذلك دون تطويق الصين ومحاصرة إيران و الاقتراب من الهند و "قريفة" روسيا ......وهو مايفسّر سعى أمريكا المحموم للحفاظ على وضعية القوة العظمى المهيمنة على أوسع رقعة ممكنة من العالم (و هو الشيئ الذى لا يمكن أن يتحقق دون إزاحة المنافسين أو محاصرتهم أو تخويفهم أو وضعهم تحت التهديد أو عرقلتهم - فيما يعرف فى المنهج السياسى الأمريكى باستراتيجية الاحتواء , وهى تلك الإستراتيجية التى حقّقت بها أمريكا نجاحا باهرا و لا يمكن التقليل من أهميته ضد إيران أولاً ثم العراق حيث تمكنت الولايات المتحدة من تطويق قوتين كانتا تستطيعان تهديد مصالحها النفطية) . وإذا كانت الولايات المتحدة قد نجحت من خلال إستراتيجية الإحتواء فى تطويق القوى الإقليمية فى منطقة الخليج العربى , فما المانع أن تنجح فى تطويق القوى الإقليمية فى آسيا الوسطى؟!
وإذا كان لنا أن نتصور نجاحاً عند إنتهاج هذه الاستراتيجيّه فيما يخص باكستان والهند , فهل يمكن لها أن تحقق نجاحاً مماثلا فى مواجهة روسيا والصين؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أشك فى ذلك........وبعنف...... و إن كنت أرى فى هذا إيذاناً بنشوب الحرب الباردة (الثانية) ومركزها هو وسط آسيا , إلاّ أن ماما أمريكا فى هذه المرّة ستكون فى مواجهة خصمين وليس خصم واحد كما كان الحال فى الحرب الباردة الأولى. وبما أن وسط آسيا هو مركز تلك الحرب الباردة المتوقّعة, فقد كان من الطبيعى أن تثار قضية أمن القوقاز‏ و آسيا الوسطي علي هامش إجتماعات قمة العاصمة التركمانستانيّه "عشق آباد" و الذي كان قد إنعقد لتسوية تقسيم الثروات القزوينية و انتهي بالفشل لتدخّل أمريكا الفج من وراء الستار بترغيب بعض الدول المشاركة وتطميعها فى دعمها من أجل الحصول على حصص أكبر من ثروات بحر قزوين ,أو من خلال تهديد دول أخرى مثل تلويحها لأذربيجان بدعم إنفصال إقليم "ناجورنو كاراباخ" ذو الأغلبيّة الأرمينيّة عنها - رغم أنّه إقليم داخلى وليس له أى حدود أو نقاط تماس مع أى دوله مجاورة لأذربيجان-.ورغم أن قضيّة تقسيم ثروات بحر قزوين كانت مطروحة على الدوام منذ تفكك الإتحاد السوفيتيى , إلاّ أن أمريكا فرضت تلك القضيّة بإلحاح إثر تداعيات أحداث سبتمبر - وفى ظل سعى أمريكا لتدعيم ركائز نظامها العالمي الجديد‏- ,مما أسبغ على إقليم القوقاز أهمية جيوسياسية وجيوستراتيجية نظراً لإحتمالية أن يكون مستودعاً نفطياً في المستقبل القريب. ورغم تشابك مشكلات الأمن والإستقرار في القوقاز , إلاّ أنّك تستطيع أن تلمح أربعة ملفات رئيسية تسهم جميعا في تركيب الصورة الأمنية القوقازية المعقدة وهى:
أولاً:
‏الصراعات السياسيّه ذات الخلفيّه الإثنيّه (لاسيما الصراع حول إقليم "ناجورنو كاراباخ" بين أرمينيا وأذربيجان‏ , و "أوسيتيا الجنوبية" و "أبخازيا" في جورجيا‏.‏
ثانياً:‏
الطموحات الأمريكية في إقليم القوقاز التي ترمي إلي إحتواء روسيا وإقصاء إيران ومراقبة الصين ‏.‏
ثالثاً:
السياسات النفطية التي أدت إلي إعتلاء إقليم القوقاز قمة الأجندة الدولية ‏.‏رابعاً:‏المصالح الإقليمية للجوار القوقازي (سواء تركيا أو إيران أو حتي الصين)‏.‏
على أى حال...فإنه إذا كانت هناك أطروحات متعلقة بالأمن والإستقرار في القوقاز كانت قد تبنتها منظمات مختلفة وقيادات سياسية - فيما أطلق عليه ميثاق إستقرار القوقاز- إلاّ أنها باءت جميعاً بالفشل نظراً لرغبة ماما مريكا فى إبقاء حالة التوتّر والتحفّز بالقوقاز (ويساعدها فى ذلك أن إقليم القوقاز يشكّل خليطاً من التناقضات والصراعات المعقدة الكفيلة بإغراقه في مستنقع لا ينضب من المشكلات التي تحول دون إستقراره الأمني) , ولهذا لعبت أمريكا على وتر دفع بعض الدول القوقازية إلى تجاهل أن أمنها الجماعي مرهون بأمن كل دولة علي حده‏ - و هو ما تفعله أمريكا حالياً بمقاومة تحويل الإقليم القوقازي من مجرد إصطلاح جغرافي إلي آلية جيوسياسية فاعلة فى تناغم بين دول هذا الاقليم , و ذلك بالطبع من أجل تحقيق مخطّطاتها التى أشرت اليها آنفا‏-).‏
على أى حال...إذا كانت أحداث سبتمبر قد أدّت الى تزايد أهمية منطقة( أوراسيا), فقد انعكس ذلك على منطقة الشيشان فى إطار الإستراتيجية الأمريكية ، ومن هنا تبدو أهمية الحديث عن الحركة الإسلامية فى الشيشان , حيث أن جزءً من هذه الحركة له علاقة بشكل التديّن الأصولى السلفى الجهادى المتهم بالإرهاب من جانب إدارة واشنطن... وهنا علينا أن نلاحظ أن الحركه الإسلامية فى الشيشان تنقسم إلى تيارين: أولهما هو التيار الصوفى - و هو التيار التقليدى للحركة الاسلامية و الذى لعب دوراً بارزاً فى تفاعلات السياسة الشيشانية الداخلية وفى مناهضة التبعيّه لروسيا- , أما التيار السلفى الجهادى فهو يتميز بالجمع بين الفكرة السلفية الداعية لتنقية المجتمع الإسلامى ممّا يعتبره ذلك الفكر شوائب دخيلة وبين الفكرة الجهادية الداعية لأسلوب العنف لتحقيق الدولة الاسلامية. وهنا... تظهر إزدواجيّة المعايير الأمريكيّة والتى تعد أحد أهم الأسباب التى تجعلها دولة غير جديرة بالإحترام: فإذا كانت أحداث سبتمبر قد جاءت كفرصة لروسيا لكسب تأييد أمريكا فى حملتها ضد الشيشان حينما أيّدت روسيا الحملة الأمريكية على ما أسمته واشنطن بالارهاب - من منطلق مقايضة ذلك التأييد باعتراف أمريكى بنفوذ روسيا فى آسيا الوسطى ومساندة حملتها فى الشيشان باعتبار الشيشانيين جزءً من الإرهاب الدولى الذى تحاربه الولايات المتحدة الأمريكيّه - , إلاّ أن الرهان الروسى كان خاطئاً و خاسراً , حيث ظهر توجّه إستراتيجى لدى الادارة الأمريكية الجديدة , و هو التوجّه المناوئ لروسيا و المؤيّد للشيشان ( وهو ماترجمته الإدارة الأمريكيّة فى صورة رغبتها فى تشكيل لجنة سلام أمريكية لإنهاء الصراع فى الشيشان بالكيفيّه التى تميل لها أمريكا معتمدة فى ذلك على وهن الدب الروسى الذى أصبح غير قادر ليس فقط على الإفتراس بل وغير قادر على الخربشه - ومؤخّرا أصبح عاجزاً حتى عن الزمجرة-).
وفى سياق هذه الاستراتيجيّه الأمريكيّه لوطئ عتبة وسط آسيا الجزاز , فقد مثّل دعمها اللا محدود لفكرة السوق القوقازية المشتركة - من خلال ربط شمال القوقاز بجنوبه - مايمكن أن نسمّيه بالسلّم النايلو فى نايلو لصعود أمريكا إلى قمّة الوضعيّه التحكّميه التى تمكّنها من إختراق القوقاز والتغلغل قى آسيا الوسطى ....وهو ما دعمته أمريكا من ناحيه أخرى بإرسال خبراء عسكريين فى مكافحة الإرهاب إلى جورجيا مؤخراً بدعوى كبح جماح حركات العنف بها , وهو ما لاأرى ترجمة له فى قاموسى السياسى المتواضع سوى أن أمريكا قد أصبح جليّاً انها تسعى ليكون لها ولايتان تحملان إسم جورجيا (ويبقى فقط إختيار ما إذا كانت ولاية جورجيا الأمريكيّه بوسط آسيا سيطلق عليها إسم ولاية جورجيا مكرّر أم ولاية جورجيا بشرطة) .

ليست هناك تعليقات: