السبت، 5 أبريل 2008

هلاوس بنى عربان




صحيح أن الهلوسة الخالصة ظاهرة معروفة جيّدا وتعد منذ زمن طويل عرضا مرضيّا مرتبطا بالجنون....ولكن..... يجدر بنا أن ننتبه إلى أن كل انسان يمكن أن يكون معرّضا للهلوسة اللحظية وأن يكون موضع إهلاس وقتى(كما يحدث مثلا فى حالات التعب الشديد أو قلّة النوم ....الخ الخ), كما يمكن أن تكون جماعات بشريّة كاملة معرّضة أيضا للهلوسة وأن تكون موضع اهلاس فى حالة حدوث اثارة جماعية بالغة أو نشوة جماعية عنيفة أو قلق جماعى شديد للغاية...الخ الخ ... فمثلا : كان ألوف الأشخاص قد رأوا (على حد زعمهم أو على حد ادراكهم الذى لانملك وصفه بالكذب ولكن بأنه مغلوط أو فاسد أو مهلوس) عمودا من النار يرتفع من الأرض الى السماء فى ضاحية "سميرن" أثناء القاء "زابيتاى زيفى" (الملقّب بمسيح القرن السابع عشر) لأحد عظاته التى أشتهرت بأنّها الأكثر تأثيرا فى مريديه.. ومثلا: ألوف الأشخاص قد رأو (على حد زعمهم أو على حد ادراكهم الذى لانملك وصفه بالكذب ولكن بأنه مغلوط أو فاسد أو مهلوس)فى بلدة "فاتيما" البرتغالية الشمس تدور وتبدى مظاهر انفعال بشرية مختلفة فى حادثة ابّان الحرب العالمية الثانية حدث حولها لغط شديد أدّى لقيام الفاتيكان باستقصاء الموضوع.
لماذا حدث ذلك؟؟؟؟
لأن مسألة الهلوسة الجماعية مسألة أساسية و متكرّرة الحدوث ليس فقط لأن كل ادراك محاط بمركّبات اهلاسيّة تؤثّر فيه.. وليس فقط لأن هذه المركّبات الاهلاسيّة يمكن أن تشوّه الرؤية وتفسد الادراك... ولكن لأنه أيضا لايوجد فارق صميمى على صعيد التصوّر البشرى بين الهلوسة والادراك الصحيح اذ أن رؤية المهلوس لها نفس صفات الواقع الحقيقى الذى يدركه الانسان الغير مهلوس بحيث تصبح الهلوسة رؤية خيالية مغلوطة ولا واقعية ولا معقوله ولكنّها مزوّدة بشعور كامل بالواقع.
ولهذا, فان الأمم عندما يتفشّى فساد الادراك فيها بصورة جماعية (كما يحدث لنا الآن نحن العرب على الصعيد السياسى والفكرى) تحتاج الى آليّات تبرز فساد ادراكها كخطوة أولى فى طريق التخلّص من تلك الهلاوس وتصحيحها وقد تكون آليّات تصحيح فساد الادراك السياسى والفكرى عند الأمم سهلة وميسورة للغاية عندما تكون الهلوسة و تصديق اللامعقول واللامنطقى شيئا غريبا على ثقافة ومفاهيم تلك الأمم..... ولكن هذه الآليّات التى لن يتيسّر تصحيح الادراك الفاسد والمغلوط وتبديد الهلاوس الجماعية الاّ بها سيكون غاية فى الصعوبة عندما تؤمن هذه الأمم بهلاوسها لأنّها تعتنق مسبقا ثقافات ومفاهيم تغذّى اللامعقول واللامنطقى ليستحيل الوهم حقيقة ( كثقافة انتظار الامام الغائب ومفاهيم الاعتقاد فى السفيانى وثقافة الانتظار للمخلّص والمنقذ و مفاهيم الاتّكاء على ما يحمله القدر وليس على ما يمكن أن يبذل من مجهود من أجل تعبيد الطريق أمام القدر..الخ الخ فى أمّتنا العربية...).... وهو أمر بالغ الخطورة اذ يفقد كل فرد فى أمّتنا العربيّة القدرة على تبيّن هلاوسه بالاستناد الى ادراك الآخرين فى مجتمعه للتحقق من فساد ادراكه من عدمه اذ أن ما سيحدث أن القيمة التحققية للاستناد على ادراك الآخرين الفاسد لايفقد قيمته فقط بل يصبح فى منتهى الخطورة اذ يضفى المصداقيّة والواقعية على فساد ادراك من يحاول التحقّق من فساد ادراكه.
نعم...نعم...نعم
نحن (العرب) أمّة مهلوسة سياسيّا وفكريّا.....
لأننا جعلنا الزمن يفسد ذكرانا....
لأننا اصطفينا من ذاكرتنا الطويلة الأجل مقاطع هامشيّة (هى المغلوطة والمشوّشة والفاسدة) لتعشش على الدوام فى ذاكرتنا القصيرة الأجل الجاهزة دائما للاستحضار فى وقت الأزمات...بينما سمحنا باسقاط مقاطع كاملة (هى المفيدة حقّا) من ذاكرتنا الطويلة الأجل فى سلّة مهملات فكرنا....ولم نسأل أنفسنا : " أو لم تكن تلك النفايات تحتوى على ذهب وجوهر التفاصيل ذات الدلالة والفائدة التى فضّلنا بغبائنا و فساد ادراكنا تناسيها لاشعوريّا؟؟؟"
نعم...نعم...نعم
نحن (العرب) أمّة مهلوسة سياسيّا وفكريّا.....
لأننا لم نع أنه مع الزمن يحدث تآكل للذكرى المفيدة والتى تم هجرها ليصبح ادراكنا الذى كان يجب تغذيته عليها مهترئا ومليئا بالثغرات....
ولأننا لم نع أن ادراكنا وتصوّرنا لواقعنا السياسى قد أصبح مشوّها منذ البداية وأننا وصلنا الى المرحلة التى لايمكن ترقيع ادراكنا السياسى الفاسد والمهترئ ببعض الرقع المزوّقة كتلك الرقع الــ"ايكو-سنترية" التى نستخدمها لارضاء ذاتنا وابراء ذممنا والقاء اللائمة على غيرنا (حتى ولو كانوا يستحقّون اللوم وحتّى ولو كان دورهم فى تردّى أحوالنا لايمكن اغفاله)...
ولأننا بهذا أخذنا نكبت فى داخلنا شيئا فشيئا وبصورة متزايدة عبر الأجيال كل ما يجعلنا موضع نقد أو مسائلة.... لأننا حرّفنا لاشعوريّا قرائتنا للأحداث فتشوّهت شهادتنا على العصر وفسد ادراكنا وهلوسنا بفعل قوى الكبت والقوى الايهامية التى صنعناها ثم زرعناها داخل عقولنا دون أن نع أنها من الضخامة والكبر بحيث تكفى لافساد أكثر الادراكات الأممية تنبّها ولادخال أكثر الادراكات الأمميّة تيقّظا فى دوّامة الهلاوس
نعم...نعم...نعم
نحن (العرب) أمّة مهلوسة سياسيّا وفكريّا.....
ونحن فعلا نحتاج الى العلاج...
ونحتاج الى النضال ضد الخداع والفساد الادراكى والهلوسة الفكرية التى نعيشها (أى ببساطة شديدة الى النضال ضد ذواتنا) وهو مالن يتحقّق الاّ بتحليل ذواتنا وتصحيحها ونقدها باستمرار
نعم...نعم...نعم
نحن (العرب) أمّة مهلوسة سياسيّا وفكريّا.....
ونحن فعلا نحتاج الى البحث عن الحقيقة داخلنا باذلين فى سبيل ذلك أكبر جهد ممكن لتحديد الصدق انطلاقا ممّا يحتمل الصدق مبدئيّا... وانطلاقا من نقد شهادات أنفسنا حول أوضاعنا ومن شهادات الآخرين عن ذواتنا دون أن ننسى وجوب اسقاط وانتقاد كل نقد ينقدنا من أجل أن ينقدنا وليس من أجل أن يعالج ادراكنا الفاسد ويصحّح مسيرتنا اذ أن النقد المغالى فيه هو الآخر يجب أن ينتقد فى ظل توخّى الحرص ألاّ يؤدّى نقد النقد المغالى فيه لأمّتنا الى تدنّى الثقة فى نقدنا لأنفسنا وفى التفكّر فى نقد الآخرين لنا بصورة عامّة.... وهو مايجعل شفائنا من هلوستنا الفكريّة والسياسية بمثابة وصفة طبية يكتب عليها العقاقير و النصائح الطبية التالية:
=يجب أن نفعّل نقدنا الذاتى لأنفسنا و نخاصم جلدنا لذواتنا
=يجب أن نتفكّر فى نقد الآخرين لنا قدر تفكّرنا فى غرض الآخرين من نقدنا
=يجب أن نتعلم كيف نرتاب فى أنفسنا ونثق فيها فى الوقت نفسه
والى أن يتم شفائنا ,فاننى أتحسّر لأن اجابة تساؤلاتى حتّى تاريخه عما إذا كنا أمّة مهلوسة أم لا كانت :
نعم...نعم...نعم
نحن (العرب) أمّة مهلوسة سياسيّا وفكريّا...
وما وهم استدراج الأمريكان الى قلب بغداد للانقضاض عليهم والذى ظل الكثيرون فى أمّتنا يوهمون أنفسهم به أثناء غزو العراق الاّ أحد مظاهر هلوستنا السياسية التى وصلت فى تلك الأحلام الى الذروة التى ما من ذروة بعدها

ليست هناك تعليقات: