الأحد، 6 أبريل 2008

دكاترة السلطان



هذا المقال تم كتابته على هامش مهزلة تعديل الدستور و إنتخابات الرئاسة الهزلية التى أعقبت ذلك التعديل


-------------------------------


كم كنت أشعر بالحنق و الغيظ عندما كنت أبدّد ملل ورتابة حياتى الدراسيّة الجامعيّة بلعب الورق و أنا فى صدر شبابى مع بعض الأصدقاء الذين يدرسون فى كلّيات أخرى , فإذا بهم يمطروننى بتندّرهم على الأطبّاء , و يحوّلون الجلسة إلى حفلة سخرية لاذعة على ممارسات و تصرّفات ممتهنى الطب , لأجد نفسى بحكم كونى مشروع طبيب فى ذلك الوقت ضيف شرف على مائدة يتناوب "السلخ" فيها كل من كان جالساً عليها على إيقاع صاخب من الضحكات الهستيريّة.و رغم حنقى و غيظى إلاّ أننى عندما كنت أعود إلى منزلى و أتمدّد على سريرى شاخصاً ببصرى فى السقف لأحملق فى الفراغ مطلقاً العنان لتفكيرى فى سخرية الأصدقاء , فإننى كنت أكتشف أننى يتوجّب علىّ إلتماس العذر لهم , إذ كم هى سخيفة بالفعل بعض مقولات الأطبّاء , و كم هى سمجة حقاً بعض تلك الأكلاشيهات التى يردّدونها بصورة آليّة , و كم هى وقحة و متبجّحة فى كثير من الأحيان تلك التبريرات الهزليّة التى يسوقونها لإنهاء أى جدل قد يدور حول إخفاقاتهم.و فى واقع الأمر فإننى كلّما إستعرضت مقولات من عيّنة "العمليّة نجحت بس المريض مات" , فإننى أذوب خجلاً و أشعر بإنتصاب كل شعيرة فى جسدى جرّاء تلك القشعريرة التى تجتاحها.


و إذا كان القدر قد أتحف المحروسة و شعبها بتلك الجوقة من الدكاترة التى أصبحت فى غفلة من الزمان فى صدارة و طليعة و واجهة الحزب الوطنى الحاكم على هامش حملة التجديد التى أطلق عقالها نجل رئيس الحزب , فإننى أصبحت أستمع كثيراً إلى مقولات سخيفة من تلك التى تخصص فيها الأطباء (و صحيح أن دكاترة الحزب الوطنى ليسوا بالضرورة أطبّاء بحكم أن كثير منهم دكاترة فى الإقتصاد أو العلوم السياسية أو القانون و ما إلى ذلك , إلاّ أنهم ظلّوا أوفياء لتراث دكاترة الطب المتمثل فى مقولاتهم الممجوجة التى تستثير السخرية و الإندهاش بقدر ما تثير الحنق و الإشمئزاز).و إذا كنّا نحمل تاريخاً طويلاً مثقلاً بتداعيات نشوء ظاهرة "فقهاء السلطان" , فإننا على ما يبدو قد طوّرنا الظاهرة لتتناسب مع فصل الدين عن الدولة فى "محروسة" العصر الحديث لتصبح......"دكاترة السلطان".


و إذا كان التشخيص الإكلينيكى لحالة المحروسة هو أنها حبلى بالتغيير و الإنطلاق نحو الحرّية و الإصلاح , و أنها كانت "على وش ولادة" , و أنها كانت فى ساعة مخاض بعد أن "حمى عليها الطلق" و أوشك رأس الجنين أن يطل على العالم لأول مرّة مغادراً الرحم المظلم الموحش الذى كان محبوساً به , فإنه و رغم كل ذلك كان من السخيف و المثير للمرارة و الحنق أن نجد دكاترة السلطان يقفون أمام أولاد المحروسة خارج باب"غرفة الولادة" و هم ملطّخين بدماء أمهم ليقولوا لهم :"معلش بقى يا جماعة......إحنا إضطرينا نضحّى بالأم و الجنين علشان صاحب المستشفى يعيش" .......و فى واقع الأمر فإن التضحية بالأم و الجنين لم تكن فقط من أجل أن يعيش صاحب المستشفى , و إنما كانت على ما يبدو من أجل يعيش معه جيش جرّار من أولئك الذين يغزلون شبكة الفساد و المصالح بالمستشفى.


و إذا كان جسد المحروسة المنهك - بفعل ذلك السرطان الذى أخذ يرتع فيه عبر الفساد و المحسوبيّة و الإهمال و القمع و النهب المنظّم- قد أصبح جسداً يحتاج إلى الرعاية المركّزة و إلى الدخول بصورة عاجلة إلى غرفة العمليّات لإجراء عمليّة تشمل زرع حرّية و نقل ديموقراطية و تثبيت ضمير و إستئصال فساد, فما أسخف دكاترة الحزب الحاكم عندما يخرجون إلينا بعد العمليّة ليقولوا لنا عبر أبواقهم الدعائيّة :

" هيّه العمليّة نجحت....بس المريض مات"


و....نعم

نجحت العملية و مات المريض


نجحت العمليّة الإنتخابية من وجهة نظر الحزب الحاكم....و لكن المريض (و هو هنا ذلك الكيان المتمثل فى النزاهة و الشفافية و الحرّية و الديموقراطيّة و الإصلاح و مكافحة الفساد).....

هذا المريض....قد مات


العمليّة نجحت و مات المريض.....عندما تم التحايل على المطالبة بتعديل الدستور فتم "تفصيل" تعديل المادة 76 بواسطة ترزيّة الحزب الحاكم لتصبح تكريساً مقنناً و مشرّعاً لممارسات الحزب الوطنى , حتى أصبحنا بحاجة ليس فقط إلى تعديل التعديل بالمادة 76 و معالجة كارثة المادة 77 , بل أصبحنا بحاجة إلى إعادة تقييم شاملة للدستور من أجل إعادة صياغته و تنقيته من الإقحامات التى تسرطنت به عبر السنين.


العمليّة نجحت و مات المريض....عندما أدهشنا الحزب الحاكم بمسابقته الزمن و إلهابه عقارب الساعة بسياط الهرولة و التهافت من أجل إطلاق إنتخابات رئاسيّة فى زمن قياسى و بإعتماد تكتيك "سلق البيض" حتى لا يعطى فرصة لأى مرشح لإنضاج تواجده و ثقله على الساحة من أجل النفاذ للناخبين , بل و أيضاً حتى لا يتمكن من له حق الإنتخاب من إستخراج بطاقة إنتخابية بحكم أن الإنتخابات فى سبتمبر و موعد إستخراج البطاقات فى ديسمبر و كأننا نلعب "حاورينا يا طيطا" أو نشاهد فيلم "تجيبها كده تجيلها كده هيّه كده".... و هو تعجّل متعمّد و مدروس أتم العمليّة برمّتها بالسرعة القصوى فى ثلاثة أسابيع بعد تلكّؤ دام ربع قرن , و هو ما يذكّرنى بالمرأة المتسلّطة التى تضيع ثلاث ساعات لتضع الماكياج و ترتدى ملابسها رغم توسّل زوجها لها حتى لا يفوتهما من موعدهما أكثر ممّا فات....ثم.......تجبره بعد أن تكون جاهزة على عدم قضاء حاجته فى ثوان معدودة بحجّة أنه يتسبب فى تأخيرهما.


العمليّة نجحت و مات المريض......عندما صدحت موسيقى الزفّة الإعلامية الصاخبة التى إخترقت حياة الناخبين عنوةً و إقتداراً لتلعب فى أفكارهم و تضغط على خياراتهم و تغرق العقل الباطن لكل ناخب فى مستنقع الإستمرار من أجل الإزدهار و المبايعة و ما إلى ذلك من هذا الهراء , حتى فوجئ أحد معارضى مبارك بنفسه و هو يدندن أثناء إستحمامه بأغنية "إخترناه...إخترناه" جرّاء كثافة و عنف غسيل المخ الإعلامى المتسلل إلى أعماق عقله الباطن ليتم إسماعه هكذا دعايات بالإكراه و بصورة مستمرة لا هوادة فيها كالإسطوانة المشروخة التى لا تكف عن الدوران فى أذنيه حتى بعد إغلاق الجهاز.العمليّة نجحت و مات المريض......عندما تم تأسيس لجنة الإنتخابات الرئاسية إرتكازاً على بنود غير دستوريّة , و عندما دخلت تلك اللجنة فى صدامات مع القضاة الشرفاء , و عندما أكسبت هذه اللجنة نفسها دون وجه حق عصمةً و حصانةً ضد الطعن فى قراراتها الغير دستوريّة و المكرّسة للتلاعب و التزوير و إستغفال الشعب , و عندما رفضت هذه اللجنة تنفيذ الأحكام القضائية التى تجبرها على التراجع عن هذه التلاعبات , و عندما كان واضحاً منذ البداية لكل ذى عينين أنها ليست سوى مخلب قط و جسر لإضفاء الشرعيّة على ممارسات غير شرعية و غير قانونيّة و غير دستوريّة....بل و غير أخلاقيّة.


العمليّة نجحت و مات المريض.........عندما تم التحرّش بمرشحين منافسين لرئيس الحزب الحاكم و تلفيق القضايا و الفضائح لهم و التربّص بهم و السعى الحثيث من أجل تشويههم و الإخلال بفرصهم من أجل الحصول على حقهم فى منافسة شريفة و نزيهة.


العمليّة نجحت و مات المريض.......عندما تم التضييق على مرشحى الأحزاب المنافسة لمرشح الحزب الحاكم , وعندما تم مراوغتهم و ملاوعتهم و إعاقتهم و عرقلتهم بأساليب صبيانيّة وصلت إلى الذروة عندما تم تأخير السماح لهم بالحصول على الكشوف الإنتخابية حتى قبل الإنتخابات بيومين فقط – رغم حصول مندوبى مرشح الحزب الحاكم عليها قبل ذلك بأكثر من أسبوع - , و ليتها كانت كشوف كاملة (إذ تم تسليمهم الكشوف على أقراص مدمجة تبيّن عدم صحّة كل البيانات الواردة بها , ناهيك عن تسليم بعضها قبل الإنتخابات بيوم واحد فقط , فضلاً عن أن ذلك خلق مصاعب جمّة للمرشحين من أجل توفير الوقت و المال اللازمين لطبع هذه الكشوف توطئة لتمكين مندوبيهم من التحرّك فى الدوائر و اللجان).....ثم, يتبجّح بعد ذلك حملة مباخر الحزب الحاكم من الإعلاميين ليعيّروا المرشحين المنافسين لولىّ نعمتهم بعدم قدرة مندوبيهم على التواجد فى اللجان و الإنخراط مع جماهير الناخبين بعد أن سلب الحزب الحاكم - الذى إستعبد الأقلام و إشترى الذمم- الوسيلة التى تمكّن مندوبى المرشحين من فعل ذلك).


العمليّة نجحت و مات المريض........عندما تم إعتماد أسلوب تسويد الخانات عند الإدلاء بالصوت رغم ما هو معروف من أن هذا الأسلوب هو الأمثل و الأسهل و الأفضل لمن أراد التزوير و التلاعب.


العمليّة نجحت و مات المريض.......عندما رفض الحزب الحاكم (عبر لجنة الإنتخابات الرئاسية التى إستنسخها بالهندسة الوراثية الدستوريّة) أن تكون صناديق الإقتراع من الزجاج أو البلاستيك الشفاف و ليس من الخشب المعتم المتعارض مع نوايا الشفافية الحقيقية , و تحجج بعض المؤتمرين بأمر الحزب الحاكم بضيق ذات اليد و إرتفاع تكلفة إستبدال الصناديق (رغم أنها لم تكن لتكلّف سوى نذر يسير من المبالغ المهولة التى تم إنفاقها على مهرجان التأييد و المبايعة لرئيس الحزب الحاكم).


العمليّة نجحت و مات المريض......عندما إتضح أنه لم يكن هناك إلتزام من المشرفين فى عدد من اللجان بإجبار الناخب على غمس إصبعه فى الحبر الفوسفورى , و أن عدداً لا يستهان به من اللجان لم يكن بها حبر فوسفورى من الأساس, و أن عدداً كبيراً من اللجان كان الحبر الفوسفورى الموجود بها من النوع المضروب الذى يُزال بالأسيتون فى لمح البصر (و ربمّا علّل ذلك بعض من يحسنون النيّة بأن ذلك الحبر الفوسفورى المضروب كان قد تم توريده عن طريق مورّد تم إرساء العطاء عليه فى مناقصة وهميّة بعد دفع المعلوم , و لكن حسن النيّة هذا لا يدع صاحبه يكتشف أن ذلك إنما حدث لتمكين الكثيرين من إعادة التصويت بعد مسحة أسيتون سريعة ..... و إذا كان الحزب الحاكم قد أشتهر بتنظيم مظاهرات "أبو صباع" الشهيرة لتأييد مرشحه , فما المانع أن يستكمل الصباع عمله حتى نهاية المشوار).



العمليّة نجحت و مات المريض.......

عندما تم فتح باب خلفى إلتفافى للتزوير و التلاعب و التدليس عبر صناديق الوافدين التى كانت مولد و صاحبه غايب بعد أن تم فتح أبواب الكثير من اللجان على مصراعيها من أجل تصويت كل من كان يحمل إثبات شخصيّة حتى و لو لم يكن إسمه مدرجاً بالقوائم الإنتخابية.


العمليّة نجحت و مات المريض........عندما تم منع مندوبى المرشحين من حضور الفرز , و عندما تم منع مندوبى الجمعيات الأهلية و المدنية من مراقبة الإنتخابات فى الكثير من اللجان رغم الحكم القضائى الذى يمكّنهم من ذلك , و عندما تم إجبار كل قاض على عدم إعلان نتيجة الفرز الذى يقوم به للصناديق و إلزامه بإرسال نتيجة الفرز للجنة الإنتخابات الرئاسية بحجة وجوب إعلان النتيجة بواسطتها بعد تجميع الأصوات (و هى بالطبع عمليّة سيتم فيها ضرب كل شيئ فى الخلاّط من أجل حصول المحروسة فى النهاية على "فخفخينا الإستمرار" و "يخنى مش كفاية" ).


العمليّة نجحت و مات المريض......عندما وصلت البطاقات الإنتخابية المختومة على بياض للكثيرين فى بيوتهم , و عندما تفشت الممارسات التى يندى لها الجبين لنوّاب مجلس الشعب المنتمين للحزب الحاكم و التى كانت ذروتها هى تلك "الظروف" ذات العشرين جنيه و صورة مبارك و بطاقة الإنتخاب الجاهزة على الصندوق.


العمليّة نجحت و مات المريض.......عندما تحوّلت الهيئات و المصالح و الوزارات و المصانع و الجمعيّات الحكومية إلى مقاولى أنفار لتوريد الناخبين إلى اللجان للتصويت لمرشح الحزب الحاكم , حيث تم شحن الموظفين و العاملين فى حافلات النقل العام و الميكروباصات و الأوتوبيسات الحكوميّة بعد رفع لوحاتها المعدنية و تغطية شعار القطاع العام الحكومى الذى يميّزها حتى تكون العمليّة "نضيفه ميّه الميّه" , رغم أن بعض مقاولى الأنفار كانوا من العبقريّة بحيث قاموا بتغطية شعار القطاع العام الحكومى بأقمشة تحمل تأييد و مبايعة الهيئة أو المصلحة الحكومية التى ينتمى لها مقاول الأنفار و أنفاره لرئيس الحزب الحاكم.


العمليّة نجحت و مات المريض.......عندما مات الحياد و تكافؤ الفرص , و عندما تباهى بذلك من إرتكبوا هذه الجريمة بعد إن إرتدى من يفترض بهم تأدية عملهم بحيادية داخل اللجان قمصاناً و تى شرتات تحمل صورة مرشح الحزب الحاكم و عبارات المبايعة و التأييد له.


العمليّة نجحت و مات المريض.......عندما حصل الحزب الحاكم على جائزة نوبل فى التزوير و التدليس و التلاعب بعد أن إخترع إختراعه الجهنّمى المعروف بإسم "البطاقة الدوّارة"..... و المثير للغثيان أن يقف مسئولى هذا الحزب بعد ذلك للتفاخر و التحاكى عن إكتساح مرشحهم للإنتخابات .


نعم....هيّه العمليّة نجحت.....بس المريض مات


فشكراً لدكاترة الحزب الحاكم


شكراً لدكاترة السلطان الذين إن كانوا قد أحبطوا و آلموا أبناء المحروسة و ضحّوا بها و بجنينها من أجل إنقاذ رئيس المستشفى و شبكة الفساد التى تدير أمورها , فإنهم قد رسّخوا بذلك داخل عقول و قلوب أبناء المحروسة أنه لا سبيل لمحروستهم- و هى الحبلى بالحرّية و الإصلاح و ضرب الفساد – لكى تلد ولادة طبيعيّة , وهو ما يفتح الباب أمام الكثيرين لكى يؤمنوا بأنه لم يعد هناك وسيلة لكى يرى هذا الوليد النور....إلاّ......بولادة قيصريّة


و.....فين المغات ؟؟؟

ليست هناك تعليقات: