الاثنين، 31 مارس 2008

إعلام "يوك"


سبق فى مقال لى بعنوان "إعلام الكخ و الدحّ,و مصداقية المرسل و المستقبل بحّ" أن تحدثت عن الآثار السلبية لشح الإعلام والإغراق الزائد للإعلام ومناطق العتامة والإظلام الإعلاميّه والإعلام الزائف أو الإعلام المزيّف(سواء بكسر الياء المشدّدة أو فتحها).

والحقيقة أننا ( كدول عالم ثالث تعانى من انعدام الديموقراطية ومن الإعلام الموجّه والمغلق والساعى إلى عمل غسيل مخ ليس فقط فى الداخل وإنّما أيضا للمتابعين من الخارج - رغم الفشل الذريع فى خداع كلاّ من الداخل والخارج - ) ...أقول أننا لسنا وحدنا الّذين نعانى من التزييف الإعلامى للوقائع والأحداث , إذ يحدث نفس الشيئ فى العديد من دول العالم المتقدّمة فى نظمها الديموقراطية المنفتحة والتى تتبنّى الإعلام الحر المفتوح وتحتضن سياسة المكاشفة الاعلاميّه (مع الفارق طبعا فى كمّ هذا التزييف بيننا وبينهم , ناهيك عن أسلوب إخراجهم المميّز و الغير مباشر مقارنة بأسلوب إعلامنا الساذج والمكشوف والمغرق فى التكتيكات المباشرة المفضوحة والمخجله).

و إذا كان إعلامنا المصرى يحاول أن يظهر للشعب المصرى وللمتابعين فى أنحاء العالم أن كل شيئ تمام التمام وأننا نعشق التراب الذى يمشى عليه رئيس دولتنا و مستعدّين لافتدائه بالروح والدم فإن الإعلام الصينى (وهو اعلام موجّه ومنغلق) والإعلام الأمريكى (وهو إعلام من المفترض أنه حر وغير موجّه) يفعلان نفس الشيئ - ولكن بدرجات متفاوتة فى التركيز والكمّ و تقنيّة التنفيذ- .

و فى حالة الإعلام المصرى فإن الإخراج الساقط للفيلم الإعلامى - الأكثر سقوطا - يتجلّى فى لقاءات رئيس الدولة على سبيل المثال مع شباب الجامعات الذين يتم ادخالهم معسكرات إعداد متخصّصة فى تحفيظهم وتلقينهم لأدوارهم وكلماتهم ومخارج حروفهم بل وهمساتهم فى يوم اللقاء المنتظر قبل موعده بأسابيع... وفى يوم اللقاء الموعود.... يتجلّى الإبتذال الإعلامى المستخف بعقول متابعيه عندما يقف شاب مثل الفحل وشنبه فى وجهه ليلقى وصلة مديح (كتلك التى ألقاها طلاّب المدرسة التى زارها نجيب الريحانى فى فيلم "سلامه فى خير")..... ويبدأ الغثيان يصيب كل من يتابع ما يحدث على شاشة التليفزيون عندما يقف ذلك الجحش الذى لايستحى على دمّه ولا يشعر بالخجل من نفسه وهو يلقى كلماته بأسلوب مسرحيّات المدارس الابتدائيّه و دور الحضانه ملقيا على أسماعنا فى البداية قصيدة شعرية تضاهى تلك القصائد التى ألقيت فى مدح الخلفاء الأمويين والعبّاسيين قبل أن يستهل كلماته الموجّهة الى رئيس الدولة والتى تنتمى لعيّنة "والدى الرئيس... يا أيّها الأب الحنون لكل شباب مصر...يا أيّها البدر المنير فى سماء شبيبة هذا البلد المعطاء......الخ الخ الخ....وبالطبع لاداعى لذكر ما يرد فى باقى خطاب ذلك الجحش اذ أنه يدور كلّه فى نفس فلك قصيدة المديح وكلماته الاستهلاليّه.

ثم.....يأتى دور البطولة النسائية فى تلك الأفلام الإعلامية الهابطة عندما تنبرى طالبة تناست أن من فى مثل عمرها وتكوينها الجسمانى قد أنجبن وأرضعن وفتحن بيوتا , لترتضى تلك الكائنة المبرمجة أن تنسخط بقدرة قادر الى طفلة فى دار حضانة هدى شعراوى لتلقى صورة كربونية من خطاب زميلها الذى سبقها ولكن بأسلوب القاء (فتّحى ياورده....قفّلى يا ورده) و (توينكل توينكل ليتّيل ستار) منهية خطابها بمقاطع معدّلة من مسرحيّة "سيّدتى الجميلة" ومقتبسة منها ككلمات من عيّنة :"أنت القلب الكبير.. أنت نعمة و إحسان .. وأنت.. وأنت.. وأنت ....الخ الخ " التى كان فؤاد المهندس يدرّب شويكار عليها........ لتكتشف أن الفارق الوحيد بين ذلك الفحل وزميلته من جهة وبين الأطفال الذين يحضرونهم لسيّدة الدولة الأولى فى إحتفالات أعياد الطفولة من جهة أخرى لايتعدّى كون أنهما يقولان :"بـابـا" بينما أولئك الأطفال يقولون :"مـامـا" ..... و هو ما يجعلنى أتسائل عن إمكانيّة إستخدام الهندسة الوراثية لاستنساخ نماذج بشريّة مهجّنة تستطيع أن تقول :"بـابـا و مـامـا" فى آن واحد .

أمّا عن طريقة الإخراج الصينيّة فإنّها أكثر وعياً ونضوجاً.... ويحضرنى هنا للدلالة على ذلك حادثة كان المفكّر الفرنسى الكبير "إدجار موران" قد رواها فى أحد كتبه عن زيارة "نيكسون" التاريخيّة إلى بكين عندما كان الرئيس الأمريكى ومعه لفيف من الوفد الإعلامى المرافق له يجتازون جميعا – سيراً على الأقدام - حديقة معبد صينى تحيط به بركة مياه إصطناعية فى غاية الروعة والجمال ليجدون – فى إطار هذا الجو الحالم الساحر- أطفالاً صغاراً كالملائكة يلعبون بقواربهم الصغيره فى الماء , مع أزواج من الشباب المراهقين و المراهقات الّذين يجلسون متشابكى الأيدى التى تمسك بزهور بديعة فى إسترخاء و هم يستمعون إلى موسيقى صادرة من أجهزة ترانزستور يحملونها ...... و هو ما دفع بالوفد الاعلامى الأمريكى إلى إلتقاط العديد من الصور لهذا المشهد الشاعرى قبل مغادرتهم للمكان....إلاّ أن أحد أولئك الصحفيين عاد بعد إنتهاء الزيارة ببرهة وجيزة ليستعيد شيئاً كان قد نسيه فى المكان , فإذا به يرى مدرّبين لا يعرف من أين انشقت الأرض عنهم وقد جمعوا الأطفال والمراهقين فى طوابير منتظمة , وكان كل منهم يعيد قاربه أو جهاز الترانزستور والأزهار الى المدرّب الذى أنهى عمليّة جمع الطوابير و استلام العهدة مطلقاً صفّارته ليسير الجميع بخطى إيقاعية كالمشاركين فى العروض الإحتفاليّه. و إذا كانت طريقة الإخراج الصينيّة بهذه الرومانسية الحالمة والناعمة , فإن طريقة الإخراج الأمريكية الهوليوديّة هى الأفضل على الإطلاق , وهى الأنجع والأكثر قدرة على النفاذ وتحقيق التأثير الذى تنشده على متلقّيها , إذ تجمع بين تقنيّات الاخراج والتقدّم العلمى والاعتماد على الدراسات والاحصائيّات وعلم النفس , ليتم جمع كل ذلك فى إطار يكون عنوانه هو : الأسلوب الغير مباشر فى الإرسال - بحيث يؤدّى الإعلام الغير موجّه (شكلاً) إلى تأثيرات موجّهة (موضوعاً).ولعل أبرع الأمثلة التى تجعلنى أصفّق إعجابا بماكينة الإعلام الأمريكيّة هى طريقة إنتقاء الأشخاص الّذين يشكّلون الخلفيّة وراء شخصيّات الإدارة الأمريكية الكبيرة عند إلقاء الخطب المهمّة ... فعندما ألقى دونالد رامسفيلد خطاباً فى قاعدة السيليّة قبل بدأ غزو العراق تم إعداد خلفيّة من الجنود الأمريكان ليتم تسليط الكاميرات طوال الوقت عليهم أثناء إلقاء رامسفيلد لخطابه... وهذه الخلفيّة البشريّة أشبّهها بــ"باليتّة الألوان البشريّة" اذ كانت مكوّنة من جنود ذوى وجوه تشبّهنى باعلانات الــ ”united colors of Benitton”... فهذا وجه هندى أحمر , وهذا وجه لاتينى , وذلك وجه زنجى بشفاه غليظة متدلّية , وهذا وجه أيرلندى أشقر الشعر أحمر البشرة أزرق العينين , وذلك وجه أصفر بعينين ضيّقتين مسحوبتين....الخ الخ الخ ....مع عدم إغفال قيام المخرج بزيادة نسبة الزنوج فى الخلفية عن نسبتهم الواقعيّة فى أفراد الجيش (كبائع الفول الذى يقال له :"اتوصّى بسلطة الطحينة شويّه" ) من باب إعطاء الإنطباع الغير مباشر بعدم وجود تفرقة عنصريّة فى المجتمع الأمريكى ككل ,ومن أجل تثبيت دعائم صرخة “United we stand” التى تم إطلاقها بعد هجمات سبتمبر.ويتكرّر نفس الفيلم ولكن برؤية اخراجيّة أخرى عندما قام "بوش" بالقاء خطاب له أمام الجالية العربيّة الأمريكيّة , حيث تكوّنت "باليتّة الألوان البشريّة" فى الخلفية وراء "بوش" من جميع الشرائح العمريّه والإجتماعيّه -بل والمذهبيّة- , لتجد فتاتين محجّبتين جميلتى الوجه فى مقتبل العمر , مع امرأة سافرة وأنيقة فى منتصف العمر , مع شاب أنيق فى العقد الثالث , مع رجل محترم ودائم الابتسام فى أرذل العمر , مع شيعى يرتدى الزى التقليدى الأسود ذو العمامة السوداء.....الخ الخ الخ ويتّفق الفيلمان فى التناغم والتنظيم والحرارة فى موجات التصفيق والتهليل التى تبدو وكأنّها مبرمجة وسابقة الاعداد ممّا يعطينى الانطباع بأننى أرى فى هذين الخطابين الصورة الليبراليّة الأنيقة من الخطابات الديكتاتورية القبيحة لرؤساء دول العالم الثالث الشموليّة لأكتشف أننا على ما يبدو جميعنا فى الهم شرق وأننا جميعنا يطالنا همّ فيلم الزيف الاعلامى رغم التفاوت الرهيب فى جودة ذلك الفيلم من مجتمع لآخر... وربّما أكّد ظنّى هذا ذلك الرجل الذى سمعنا صوته ولم نراه أثناء خطاب بوش وهو يصرخ فى حماسة ونشوة بالغتين :

“Thank you Bush……it is all because of you”
لتضج القاعة بالتصفيق الهستيرى المتواصل حتى أدمى المصفّقين أيديهم بينما "بوش" منفشخ الضب حتّى كاد أن يبتلع أذنيه بابتسامته البلهاء الواسعة المنتشية....... إذ ذكّرنى ذلك على الفور بخطابات رئيس دولتنا فى عيد العمّال عندما تجد أحدهم يصرخ من آخر القاعة بنفس نشوة وحماسة ذلك الرجل الأمريكى مطلقا عبارات من عيّنة :

" الله أكبر.... عشت لنا يا قائدنا... المنحه يا ريّس... "
بينما رئيس الدولة" متكيّف" على الآخر وتعلو وجهه إبتسامة الرضى , فى حين تضج القاعة بنفس التصفيق الهستيرى الذى شهدته القاعة الأمريكيّة فى خطاب بوش الأخير. ورغم أن الحالتين كما نرى متماثلتين فى الجوهر, إلاّ أنه يحلو للبعض قرائة كلاّ منهما بصورة مختلفة...إذ تعزى تلك الأحداث من وجهة نظرهم فى الحالة الأولى إلى حرّية تعبير المحتشدين فى القاعة عن أحاسيسهم , بينما يبرّرونها فى الحالة الثانية بالآليّات القمعيّة الشموليّة التى تفرض على المحتشدين فى القاعة فعل ذلك رغما عنهم... وهو ما يجعلنى أتحسّر على الاعلام الزائف والمزيّف الذى يقوم بصناعة الخبر على هواه بدلا من نقله وتحليله بمصداقيّة وهو ما يجعل الخبر فاقدا لمصداقيّته اذ أن بوسع آلة الاعلام الأمريكيّة على سبيل المثال أن تنقل نفس الخبر بطريقتين مختلفتين كأن تنقل خبرا عن قيام شابّين بقتل كلب بضربه على رأسه بقضيب معدنى أثناء تريّضهما بمانشيت عريض يقول :


"شاب شجاع ينقذ صديقه من كلب ضال مسعور هاجمهما أثناء تريّضهما"


و ذلك بالطبع عندما يتعلّق الخبر بشابّين اسرائيليين..... كما يمكنها نقل الخبر بمانشيت أعرض يقول :




" شابّين متوحّشين يقتلان حيوانا أليفا أثناء تريّضهما"


و ذلك عندما يتعلّق الخبر بشابّين فلسطينيين ( وهو ما لن يجد الاعلام العربى بدوره غضاضة على أى حال فى فعله هو الآخر -مع عكس الآية-).

ليست هناك تعليقات: